[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] (شَرَى و اشْتَرَى) كلمتان قرآنيتان متفقتان في الجذر اللغوي: (شري)، كثير من أصحاب المعاجم ساوى بين الصيغتين كابن فارس في المقاييس(1)، وابن منظور في اللسان إذ يقول: (شَرى الشيءَ يَشْريه شِرىً وشِراءً واشْتَراه سَواءٌ، وشَراهُ واشْتَراهُ: باعَه، قال الله تعالى: ]وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ
بَخْسٍ[ (يوسف:20))(2). وكذا الفيروزآبادي إذ يقول: (شَراهُ يَشْرِيه: مَلَكَه بالبيع، وباعَهُ كاشْتَرَى ...... وكلُّ مَنْ تَرَكَ شيئاً وتَمَسَّكَ بغيرِهِ فقَدِ اشْتَراهُ ومنه: ]اشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ بالهُدَى[)(3). وإلى ذلك ذهب الرازي(4)، والفيومي(5)، وهو مذهب الجوهري(6) وأبي البقاء إذ يقول: (كل من ترك شيئا وتمسك بغيره فقد اشتراه)(7).
ويوضح ذلك الفيومي فيقول: (وإنما ساغ أن يكون الشراء من الأضداد لأن
المتبايعين تبايعا الثمن و المثمن، فكلّ من العوضين مبيع من جانب و مشري من
جانب)(8). وإلى ذلك ذهب بعض المفسرين كالبغوي الذي يرى أن كلتيهما تؤديان نفس المعنى فيقول: (]فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ[ (النساء:74) قيل: نزلت في المنافقين. ومعنى يشرون أي: يشترون)(9). وإلى ذلك ذهب القرطبي(10)، و الشوكاني(11). إلا أن بينهما تضاداً في المعنى في لغة القرآن كما سيتضح لك ذلك بعد قليل. حول الأصل اللغوي الكلمتان يجمعهما الأصوات الثلاثة: (ش ر ي)
وهي دالة في أصل اللغة على: البيع والشراء مُمَاثَلةً، وفي ذلك يقول ابن
فارس: (الشين والراء والحرف المعتل أصول ثلاثة: أحدهما يدل على: تعارض من
الاثنين في أمرين أخذاً وإعطاءً مُمَاثَلةً، والآخر: نبتٌ، والثالث: هَيْجٌ
في الشيء وعلُوّ. فالأول قولهم: شَرَيتُ الشيء واشتريتُه: إذا أخذته من صاحبه بثمنه. وربما قالوا: شريتُ: إذا بعتَ، قال الله تعالى: ]وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ[ (يوسف:20) ومما يدل على المماثلة قولهم: هذا شَرْوَى هذا، أي: مِثْلُه. وفُلاَنٌ شَروَى فلانٍ ........)(12). يقول شهاب الدين الهائم المصري(ت:815): (]اشتروا الضلالة بالهدى[ استبدلوا. وأصل هذا أن من اشترى شيئا بشيء فقد استبدل منه. واشتقاق
الاشتراء من: الشروى، وهو: الميل؛ لأن المشترى يعطى شيئا ويأخذ شيئا.
والاشتراء: أخذ الشيء الثَمِن عِوَضَاً، وهو الابتياع، والشراء: البيع، يمد
ويقصر. ومنه: ]وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ[ (يوسف:20) ويستعمل للابتياع، كما يستعمل الاشتراء للبيع أيضا، والباء تدخل على المتروك)(13). قال
الراغب: (الشراء والبيع متلازمان، فالمشترى دافع الثَّمَن وآخذ
المُثْمَنِ، والبائع دافع المُثْمَنِ وآخذا الثَّمَن، هذا إذا كانت
المُبايعة والمُشَارَاةُ بِنَاضٍّ(14) وسِلْعَةٍ. فأما إذا كان
بيع سلعة بسلعة صح أن يُتَصَورَ كلُ واحد منهما مُشتريا وبائعا؛ ومن هذا
الوجه صار لفظ البيع والشراء يستعمل كل واحد منهما في موضع الآخر
........... ويجوز الشراء والاشتراء في كل ما يَحْصُلُ به شئٌ نحو: ]إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ[(آل عمران:77) ..... )(15). أولاً : شَرَى (بـاع وأخذ الثمن)
"شَرَى" فعل ماض ثلاثي ورد في القرآن الكريم في أربعة مواضع بالصيغ التالية: (شَرَوْا، َشَرَوْهُ، يَشْرِي، يَشْرُونَ). و جاءت كلها بمعنى: بـاع و أخذ الثمن.
سواء أكان البيع لسلعة أم للدنيا أو للنفس. وهذا موافق لِما ذهب إليه أكثر
العرب، يقول الأزهري: (وللعرب في شَرَوْا واشْتَرَوْا مَذْهبان، فالأَكثر
منهما أَن يكون شَرَوا: باعُوا، واشْتَرَوا: ابْتاعوا. وربما جعلُوهما
بمَعنى باعوا)(16)، وقال الراغب: (وشريت بمعنى: بعت أكثر)(17)، وجاء في المعجم الوسيط: (شراه: باعه)(18).
ومن ذلك قوله تعالى: ]وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ[ (يوسف:20) فالآية تتحدث عن يوسف عليه السلام، وتخبر أن الذين أخرجوه من البئر قاموا ببيعه مقابل ثمن قليل(19). ومثلها كذلك: ]فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ[ (النساء:74) أي: يبيعون الحياة الدنيا لله مقابل الأجر والثواب والجنة في الآخرة(20).
وقال تعالى: ]وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ[(البقرة:207) أي: يبيع نفسه لله لنيل مرضاته وجنته. وكذا قوله تعالى: ]وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ[(البقرة:102)
إذ تتحدث عن اليهود، فقد باعوا أنفسهم وحرموها الجنة والإيمان مقابل عرض
زائل في الدنيا. قال ابن كثير: (أي بئس البديل ما استبدلوا به من السحر
عوضا عن الإيمان ومتابعة الرسول لو كان لهم علم بما وُعِظوا به)(21).
فإذن: هذه أربعة مواضع –لا خامس
لها- ذُكِرتْ فيها الكلمة وجاءت كلها بمعنى: باع؛ وبالتالي أستطيع أن أجزم
أن معنى هذه الكلمة في القرآن هو: باع، وإن ساوت معظم كتب اللغة بينها وبين
اشترى على عادتها في التوسعة في الاستعمال اللغوي.
ومن الملاحظ أن "باء البدل" دخلت
على المأخوذ دون المتروك، أي دخلت على المادة المأخوذة لا على المادة
المتروكة. فدخلت على الدراهم التي أخذها من ترك يوسف وباعه ]وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ[ وكذا دخلت على الآخرة في قوله تعالى: ]فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ[ وهذا خلاف لما تقرره كتب اللغة من أن الباء تدخل على المتروك.
ثانياً : اشْتَرَى
(أخذ السلعة و دفع الثمن)
"اشْتَرَى" فعل ماض خماسي، ورد بالاشتقاقات
التالية: (اشْتَرَى، اشْتَرَاه، اشْتَرَوُا، يَشْتَرِي، يَشْتَرُونَ، وَلا
تَشْتَرُوا، لا نَشْتَرِي، لِيَشْتَرُوا). وقد ورد في القرآن الكريم إحدى
وعشرين مرة، كلها كانت بمعنى: دفع الثمن و أخذ ما يقابله. جاء في المعجم الوسيط: (و اشتراه: أخذه بثمن )(22).
من ذلك قوله تعالى: ]َقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ[ (يوسف:21) أي الذي دفع الثمن وأخذ يوسف من الذين باعوه.
وقال تعالى: ]وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ[ (البقرة:102) الحديث عن اليهود السحرة الذين نبذوا التوراة وراء ظهورهم وكذبوا محمداً e، هؤلاء علموا أن ليس لهم نصيب في الآخرة؛ لأنهم استبدلوا السحر بالإيمان، فهم باعوا الإيمان والإسلام الذي جاء به سيد الأنام e مقابل أخذهم السحر وعملهم به. فمعنى اشتراه هنا: أخذه، والضمير عائد على السحر.
وقال تعالى: ]إِنَّ
اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ
بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ
وَيُقْتَلُونَ[ (التوبة:111) أي: اشترى الله Y أنفس المؤمنين و أخذها منهم –وذلك في جهاد الأعداء- وأعطاهم الثمن وهو الجنة.
وقال تعالى: ]فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً [ (المائدة:106) أي: لا نأخذ مقابل قَسَمِنَا وحلفِنا كاذبين عوضاً(23).
وقال تعالى: ]أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ[ (البقرة:16) أي: أخذوا الضلالة وفضلوها ودفعوا الهدى واستغنوا عنه واستبدلوه. وقريب من هذا المعنى كل من الآيات التالية: ]أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ[ (البقرة:86) ]بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ[ (البقرة:90)
]أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ[ (البقرة:175) ]إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالأِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[(آل عمران:177) ]اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ[(التوبة:9)]فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ[ (آل عمران:187) ]فَوَيْلٌ
لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً[ (البقرة:79) ]إِنَّ
الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ
وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي
بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ[ (البقرة:174)]إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ[ (آل عمران:77)]أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ[ (النساء:44)]وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً[ (لقمان:6) إما أخذ الغناء مقابل الثمن، أو أخذ الشرك مقابل الإيمان، أو اختيار حديث الباطل على حديث الحق، أو ما يضر على ما ينفع(24).
وجاء بالنفي في موضع: ]وَإِنَّ
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ
بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً[ (آل عمران:199) وهو إخبار ومدح لفئة من أهل الكتاب المؤمنين بمحمد e الذين من صفاتهم أنهم لا يأخذون ثمنا قليلا مقابل آيات الله.
وجاء بالنهي في موضعين، أولهما: ]وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً[ (البقرة:41و المائدة:44) وثانيهما: ]وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً[ (النحل:95).
ومن الملاحظ أن "باء البدل" هنا
دخلت على المتروك دون المأخوذ، أي دخلت على المادة المباعة المتروكة لا على
المادة المأخوذة، وذلك موافق لأصل اللغة، خلافا لباء البدل مع الفعل
"شرى". فدخلت على كلمة "الهدى" المتروك في قوله تعالى: ]أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ[ (البقرة:16) وكذا دخلت على كلمة "الآخرة" المتروكة في قوله تعالى: ]أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ[ (البقرة:86) وكذا على الإيمان في قوله تعالى: ]إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالأِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً[ (آل عمران:177) وكذا على الآيات في قوله تعالى: ]اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً[ (التوبة:9).
الخلاصة
لا ترادف بين فعلي "شرى و اشترى" في لغة التنزيل؛ إذ تبين بعد الاستقصاء أنهما متعاكستان، ويمكن تلخيص الدراسة بما يلي:
أولاً: "شَرَى" جاءت في القرآن الكريم بمعنى: بـاع. أي بذل السلعة ليأخذ مقابلها الثمن.
ثانياً: "اشْتَرَى" جاءت في القرآن الكريم بالمعنى المتداول عند الناس وهو: أخذ السلعة أو المادة المشتراة و دفع ثمنها وقيمتها.
ثالثاً: تدخل "باء البدل" على المادة المشتراة إذا كان الفعل في الجملة "شَرَى".
رابعاً: تدخل "باء البدل" على المادة المَبيعة المتروكة إذا كان الفعل في الجملة "اشْتَرَى".